أكد معالي أمين عام رابطة العالم الإسلامي الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى؛ أن التسامح قيمة أخلاقية عالية حفل بها ديننا الإسلامي؛ ويقتضي المعاملة بالمثل والتخلي عن المنظور الأحادي؛ مشيراً إلى أن أتباع الأديان والثقافات في حاجة إلى تغليب روح السماحة والاحترام والتعايش لمواجهة تجار التدين الضال؛ معرِّفاً السماحة بأنها سمو نفسي عال يحقق السلام والوئام بين الأمم والشعوب؛ وهي ليست ضعفاً أو استسلاماً أو تفريطاً في الحقوق؛ وتكسب المناعة ضد التطرف والعنصرية وتعزِّز اندماج المجتمعات.
وقال معالي الدكتور العيسى في حوار أجرته معه مجلة (معكم) الصادرة من الأمانة العامة للمنظمة العربية للهلال الأحمر والصليب الأحمر: كلما اتسعت مساحة المعرفة المتبادلة بين الشعوب .. ضاقت مساحة الاختلاف والتوجس؛ مضيفاً لا خيار لتعزيز التسامح سوى حوار الحضارات مقابل نظريات الصدام والصراع الحضاري؛ مؤكداً أهمية الحاجة للحوار الفعال؛ لا حوار المجاملات والظاهرة الصوتية الذي يعد مضيعة للوقت وينتهي إلى أرشيف النسيان؛ لافتاً إلى أن الاحترام المتبادل بين التنوع البشري أرضية مهمة لسلام ووئام المجتمعات.
ووصف معاليه “وثيقة مكة المكرمة” بأنها ” وثيقة دستورية وخارطة طريق إسلامية معاصرة لمعالجة كثير من القضايا”؛ وكشف أن مؤسسات غربية طلبت منهم إدراج هذه الوثيقة كمادة دراسية لتدريب الأئمة.
فإلى مضابط هذا الحوار الشامل والثري مع معالي الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى:
التسامح قيمة أخلاقية عالية:
توفر السماحة مناخاً إيجابياً للحوار الحضاري الواعي غير المتزمّت القائم على الحجة والإقناع؛ وتعد أفضل خريطة طريق لتعزيز تماسك المجتمعات الإنسانية؛ وتجاوز معوقات التعايش .. نتطلع لقراءة معاليكم حول دلالات هذا المفهوم؟
التسامح قيمة أخلاقية عالية حفل بها ديننا الإسلامي بل وكان الإسلام أكثر عطاء في ذلك حيث رسخ مفهوم السماحة الذي لا يتطلب مقابلاً، لكون التسامح يعني التفاعل بين الجانبين.
التسامح يقتضي بالضرورة المعاملة بالمثل والتخلي عن المنظور الأحادي، ولا يتحقق إلا إذا كان متبادلاً كما أشرنا، والسماحة والتسامح قيمة عليا في الإسلام ومن عائدهما إكساب المناعة ضد التطرف و العنصرية كما أنهما يسهمان بشكل كبير في تعزيز الاندماج في المجتمعات حيث قبول الآخر والإيمان بحقوقه كافة. وليست السماحة أو التسامح ضعفا أو استسلاما للآخر أو تنازلا وتفريطا في الحقوق كما تتصوره بعض المفاهيم الضيقة والمتطرفة، وإنما هو سمو نفسي عال وفعال يهدف إلى تحقيق السلام والوئام بين الأمم والشعوب والمجتمعات الوطنية، ويمثل كفاءة الإنسان في بنائه الفكري والسلوكي. وفي الاصطلاح المعاصر هناك اتفاق على أن التسامح هو الاحترام والقبول والتقدير، وهو ليس واجبا أخلاقيا فحسب، وانما هو واجب سياسي وقانوني أيضا.
تغليب روح السماحة:
كيف ترى أهمية السماحة في إثراء ثقافة الحوار الواعي بين أتباع الأديان والثقافات والأعراق والمذاهب وتعزيز السلام والوئام بين مكونات المجتمع الإنساني في دول العالم أجمع؟
إننا في الرابطة مقتنعون بأن أتباع الأديان والثقافات أحوج ما يكونون اليوم إلى تغليب روح السماحة والتسامح والاحترام والتعايش الحضاري، والتعاون الوثيق من أجل مواجهة المتطرفين وتجار التدين الضال، وبناء الثقة من خلال حوار فعال متجرد من أي تبعات تاريخية أياً كانت فهي في ذمة أصحابها ولا تزر وازرة وزر أخرى. عالمنا أحوج ما يكون إلى هذه القيم العالية من أجل تعزيز تواصله الإنساني وتلاقيه وتعاونه في إطار المشتركات والمصالح. وذلك ما تسعى إليه الرابطة في تواصلها وتعاونها مع أتباع الأديان والثقافات. خذ كمثال قريب في (مؤتمر باريس للتضامن والسلام ) الذي شارك فيه ممثلو 40 دولة ، وممثلو أتباع الأديان الكتابية، تم توقيع اتفاقية باريس التاريخية للعائلة الإبراهيمية، وهي اتفاقية تدعو إلى تعزيز جهود السلام والوئام ، ومواجهة خطاب التطرف والكراهية والعنصرية ، والتصدي لأساليب التحريض على السلم العالمي والمجتمعي، باختصار أستطيع القول بأن الاتفاقية هدفت إلى إرساء دعائم عالم يسوده العدل والإخاء وتعزيز القيم المشتركة ، وتوطيد العلاقات البينية والرفع من مستوى التفاهم المتبادل بين القادة الدينيين من منطلق تأثيرهم الكبير كما هو معلوم.
التصدي للكراهية والطائفية:
هناك في بعض المجتمعات العربية من يروج للكراهية ويحرض على العنف والصدام والإرهاب؛ ما هي الآلية المناسبة للقضاء على هذا النوع من التحريض؟
هذا موضوع مهم وقد تدارسه في مؤتمر وثيقة مكة المكرمة أكثر من 1200 مفتٍ وعالم إسلامي من 127 دولة يمثلون سبعة وعشرين مذهباً وطائفة إسلامية، كما شارك أولئك الأعلام الكبار بنفس العدد والتنوع في تدارس الموضوع ذاته في المؤتمر الدولي الذي عقدته الرابطة تحت عنوان: (الوحدة الإسلامية – مخاطر التصنيف والإقصاء) . وفيهما تم الاتفاق تأصيلاً وتأكيداً على وجوب التصدي لمشاريع الكراهية والصراع الطائفي، وإيجاد قنوات للتواصل بين أتباع المذاهب الإسلامية لبناء جسور الثقة والتفاهم والتعاون على المشتركات الإنسانية الجامعة، ومحاصرة خطاب الكراهية والخطاب الطائفي المتطرف، وجمع كلمة العلماء والدعاة، وتقريب وجهات النظر بينهم، والتأكيد على مسؤوليتهم في جمع الكلمة، ونشر قيم الوسطية وتعميق أواصر التآخي والتآلف بين الجميع ونبذ خطاب العداء والفرقة، وأكد مؤتمر وثيقة مكة المكرمة على خطورة الصدام والصراع الحضاري بين الأمم والشعوب. ونعمل حالياً على البرامج التنفيذية لمخرجات هذين المؤتمرين، بل وقد طلبت منا مؤسسات غربية بأن تكون بنود وثيقة مكة المكرمة التي صادق عليها أولئك العلماء في مشهد تاريخي غير مسبوق مادة دراسية لتدريب الأئمة ولكننا أوضحنا بأننا لا ندخل في التدريب مباشرة لكن بنود الوثيقة بآلياتها التنفيذية متاحة للجميع، نحن نؤكد بأن تدريب الأئمة يفترض الا يكون وافداً بل من الداخل الوطني لكل بلد.
الاحترام المتبادل بين التنوع البشري:
تعصف بعالم اليوم صراعات دامية في أكثر من دولة وإقليم؛ ويعد التعصب والمواقف المتشنجة في الغالب هما الوقود المؤجج لتلك الصراعات .. كيف يمكن أن نقضي عليها من خلال التسامح؟
في (المؤتمر الدولي لمبادرات تحصين الشباب ضد أفكار التطرف والعنف وآليات تفعليها ) الذي عقدته الرابطة عام 2019 في مقر الأمم المتحدة بجنيف وصدر عنه ( إعلان جنيف ) تم الاتفاق على أن الصدام الديني والاثني والفكري والحضاري يمثل مخاطرة كبيرة تطال الأمن الوطني والسِّلْم العالمي، والوئام بين الأمم والشعوب بشكل عام، والمجتمعات الوطنية بشكل خاص. كما تم الاتفاق في هذا المؤتمر على أن الاحترام المتبادل بين كافة التنوع البشري يمثل أرضية مهمة لسلام ووئام الأمم والمجتمعات. ومن أجل تفعيل دور التسامح في ذلك، تم الاتفاق على ” إنشاء مركز للتواصل الحضاري في جنيف ليكون منصة عالمية للحوار وتعزيز الصداقة والتعاون بين الأمم والشعوب وردم سلبيات الفجوات الدينية والثقافية والإثنية من خلال قاعدة المشتركات الدينية بخاصة والإنسانية بعامة التي تكفل لعالمنا العيش بسلام ووئام .
كما دعونا القادة الدينيين في كل الأديان إلى ترسيخ ثقافة السماحة والتسامح في أوساط الشباب من خلال تنظيم فعاليات شبابية للحوار والعمل على المشتركات الدينية والإنسانية لدعم جهود السلام العالمي والوئام الديني والإثني وتعزيز التحالف الحضاري وكذلك سعة الأفق الديني والفكري، والذي يمثل معضلة لدى البعض بل عامة المشكلات هي من هذه المعضلة.
حوار الحضارات
تتباين المجتمعات في الثقافات والأعراق والأجناس والمعتقدات والقوميات .. كيف يمكن تكريس التسامح ” السماحة” لخدمة هذه المجتمعات لتعيش بسلام وكرامة في وحدة إنسانية مشتركة؟
من أفضل السبل لتحقيق ذلك التربية على الحوار الفعال والإيمان الصادق بحق الآخر في الوجود بكل كرامة واحترام انطلاقاً من الإيمان بالمُسَلَّمة الكونية في حتمية الاختلاف والتنوع والتعدد في هذه الحياة، والإيمان كذلك بأنه لا خيار سوى خيار حوار وتعاون بل وتحالف الحضارات في مقابل نظريات الصدام والصراع الحضاري التي يروج لها المتشائمون والكارهون. وللأسرة والتعليم ومنصات التأثير دور كبير في ترسيخ هذه القيم المهمة بل والمحورية، ومن هنا نبني الجسور ونزيل الأسوار ويكون الجميع تلقائياً أمام مكسب السماحة والتسامح على أرض الواقع .
وثيقة مكة وثيقة دستورية:
كيف ترى أهمية “وثيقة مكة” الصادرة بتاريخ 30 مايو 2019 في التأكيد على أن البشر على اختلاف مكوناتهم ينتمون إلى أصل واحد وهم متساوون في إنسانيتهم؛ والقضاء على الشعارات العنصرية ودعاوى الاستعلاء البغيضة؟
وثيقة مكة المكرمة هي وثيقة دستورية تمثل خارطة طريق إسلامية معاصرة لمعالجة عدد من القضايا، وتكمن أهميتها في أنها شكلت إجماعاً لعلماء المسلمين غير مسبوق في عدده ووزنه وتنوعه وفي قضايا مهمة ومحورية للغاية، وهي متاحة للجميع وبعدة لغات دون حاجة للاستطراد في شرح تفاصيلها.
الحوار الفعَّال
يقول الحق سبحانه وتعالى ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة) ولكن الاختلاف بين الأمم في معتقداتهم وثقافاتهم وطرائق تفكيرهم قضت به حكمة الله .. كيف ترون أهمية هذه السنة الكونية في تعزيز التعامل العقلاني والحكيم لنشر السلام الإنساني في المجتمعات؟
تعدد البشر واختلافهم جعل من الحوار وسيلة من وسائل التقارب والتعارف وتبادل المعارف، ولا يخفى أنه كلما اتسعت مساحة المعرفة المتبادلة بين الشعوب والأمم، على مختلف المستويات، ضاقت مساحة الاختلاف أو على الأقل التوجس والتخوف والذي غالباً ما يكون مبنياً على معلومات خاطئة أو مضللة. ولذلك فالحوار الفعِّال مهم للغاية، وعندما أقول الفعال استثني الحوار غير المثمر وتحديداً حوار المجاملات وحوار الظاهرة الصوتية “الإعلامية”، هذا لا يفيد وهو مضيعة وقت ومال وجهد وينتهي في آخر دقيقة له إلى أرشيف النسيان وكأن شيئاً ما كان.